منذ الاحتلال الأمريكي للعراق ثم اغتيال الحريري، جرت مياه كثيرة من تحت جسور التحالفات فى المنطقة. فالزعيم الدرزي اللبنانى وليد جنبلاط، الذى يخوض معركة حياة أو موت بالنسبة له مع النظام السوري وامتداداته فى لبنان، أصبح حريصا، بمناسبة ودون مناسبة، على التذكير بأصوله الكردية، وهى القصة اللغز التى لا يعرف أحد الآن كيف ومتى حصلت طالما أن التبشير الدرزي توقف منذ ألف عام، وأقفلت أبواب الطائفة بـ "الضبة والمفتاح"، كما يقول المصريون، منذ وفاة الحاكم بأمر الله الفاطمي! وتعتقد مصادر إسرائيلية التقت جنبلاط خلال العام الأخير أكثر من مرة على هامش ندوات ومؤتمرات دولية أنه بات مقتنعا بـ "الصيغة العراقية" التي أسفر عنها الاحتلال الأميركي باعتبارها الحل الأمثل للبنان. وقناعته هذه ليست وليدة تصور نظري كما يمكن أن يتكهن البعض، وإنما ذبذبات الموجات القصيرة التي يصعب على غيره التقاطها.
يدرك جنبلاط من خلال زياراته الخاصة إلى واشنطن أن الإدارة الأمريكية باتت ترى تقسيم المنطقة إلى معازل وكانتونات طائفية، وإن ضمن حدود فيدرالية، هو الطريقة الأمثل من وجهة نظرها للخروج من المستنقع الذى وجدت نفسها فيه بعد احتلال العراق. وليس لبنان خارج تصورها هذا، إن لم يكن فى القلب منه. وكان بإمكان جنبلاط، وغيره، ملاحظة ذلك منذ أن بدأ بعض الأصوات الأمريكية يعلو بما كان محرما الحديث عنه حتى وقت قريب، لا سيما ما يتصل بتقسيم العراق إلى ثلاثة كانتونات: شيعي وسني، فضلا عن الكردي القائم بقوة الأمر الواقع.
وقبل ذلك، وبالتساوق معه، حديث أكثر من مسؤول أمريكي سابق عن الأمر نفسه فيما يخص لبنان، وهو الأمر الذى اضطرت الولايات المتحدة فى الماضي لأن تبرم معاهدة غير معلنة مع الأسد الأب لمنع حصوله فى هذا البلد رغم أنه كان المطلب الأساسي لحلفائها اللبنانيين، لاسيما القوات اللبنانية.
من الواضح أن ثمة تيارا قويا فى "الاستابلشمنت" (المؤسسة) الأمريكية، بشقيها الجمهوري والديمقراطي، بات يدفع باتجاه عرقنة الوضع اللبناني. وليس هذا أمرا مزعجا بالنسبة لجنبلاط الذي طالما اعتقد أن أي انصهار وطني فى لبنان سيكون على حساب نفوذه المذهبي. ومن يراقب مناوراته وتطور خطها البياني منذ مصرع الحريري بإمكانه أن يلحظ ذلك بسهولة. ولم تكن ردة فعله العدوانية تجاه تحالف عون - حزب الله إلا التعبير المكثف عن ذلك، بغض النظر عن كل ما قاله وما سيقوله عن هذا التحالف لجهة أنه سيعيد الوصاية السورية إلى لبنان. وهو يبذل جهودا استثنائية لمنع أي تقارب سني - شيعي لاعتقاده أن أي تقارب من هذا النوع لن يسدد أحد فاتورته إلا هو شخصياً.
بالتساوق مع ذلك، ركب جنبلاط موجة الحملة المذهبية التى تقودها "السنية السياسية" الشرق أوسطية ضد إيران وحلفائها من داخل غرفة عمليات مشتركة يرابط فيها على مدار الساعة قادة السعودية ومصر والأردن، ومن وراء الستارة قادة واشنطن وتل أبيب. وقد أصبحت تعابير من مثل الفرس والمجوس، رغم ما تنطوي عليه من مضمون ونبرة عنصريين يذكران بخطاب صدام حسين خلال حربه على طهران، مكونا أساسيا من مكونات خطابه السياسي.
ويبدو جنبلاط فى هذا السياق صادما ومذهلا فى قدرته على ممارسة نمط من السياسة غير مسبوق فى بذاءته وانتهازيته الأخلاقية والسياسية. فالجميع يعرف أنه زار طهران أكثر مما زارها حسن نصر الله شخصيا حسبما يقول مراقب إسرائيلي معني بالشؤون اللبنانية. ويضيف هذا المراقب إن عدد زيارات جنبلاط إلى إيران منذ قيام الثورة الإسلامية بلغ أكثر من تسع عشرة زيارة، بينما لم يزرها حسن نصر الله أكثر من إحدى عشرة مرة حسبما تؤكده مصادر الاستخبارات إسرائيلية. هذا على الرغم من أن معظم زياراته نصر الله أحيط بالسرية لأسباب أمنية. يضاف إلى ذلك، والكلام لم يزل للمراقب، إن جنبلاط كان يتلقى حتى وقت قريب إعالة مالية سنوية من طهران تتراوح ما بين 20 إلى 30 مليون دولار بتوصية من حزب الله وحركة أمل، على أساس أنه يشكل ظهيرا سياسيا داخليا لا غنى عنه للحزب فى تأمين الغطاء السياسي الداخلي لمعركته ضد إسرائيل و سلاحه فى آن معا.
يدرك جنبلاط، والقول لم يزل للمراقب، أن الفشل الأمريكي فى العراق دفع واشنطن واليمين الإسرائيلي إلى مذهبة المواجهة الدائرة فى الشرق الأوسط لتصبح سنية شيعية. فالولايات المتحدة أدركت أخيرا أن انتصارها على الساحة العراقية بات مرهونا باستقطاب أوسع تحالف شعبي ورسمي فى وسط السنية السياسية رغم النكسة التى أصيب بها هذا التحالف فى حرب إسرائيل الأخيرة ضد حزب الله، والتي لم تسفر سوى عن رفع صور نصر الله فى حرم الجامع الأزهر وشوارع عمّان. وهذا آخر ما كان ينتظره المحافظون الجدد وإيهود أولمرت، ومعهما ملكا السعودية والأردن والرئيس المصري، وإلى حد ما أبو مازن فى رام الله! ويعتقد جنبلاط، وقد يكون محقا فى ذلك، أن انتصار التحالف الجديد هو الوحيد الذى يضمن مستقبله السياسى. ولهذا وضع بيضه كله فى سلته، وحرق جميع مراكبه التي يمكن أن تؤمن له عودة مأمونة فى حال فشل رهاناته. وتجاوز فى ذلك جميع الخطوط التى كانت بالغة الاحمرار بالنسبة له حتى وقت قريب، مثل المواجهة مع إسرائيل ومستقبل القضية الفلسطينية، ومسألة التوطين التي تشكل المسألة الأكثر حساسية فى لبنان. أو على الأقل هذا ما كان يعلن عنه دوما.
وتفيد مصادر إسرائيلية وثيقة الصلة بالساحة اللبنانية أن جنبلاط أبلغ مؤخرا أكثر من مصدر أوروبي وأمريكي أنه بات مقتنعا بأن توطين حوالى نصف مليون فلسطيني فى لبنان هو السلاح الأمضى للتغلب على معضلة الأكثرية الديمغرافية الشيعية فى لبنان مرة واحدة وإلى الأبد، على اعتبار أن معظم هؤلاء، باستثناء أقلية مسيحية اندمجت مع مسيحيي لبنان منذ وقت مبكر بعد حرب العام 1948، هم من المسلمين السنة. لكن جنبلاط يعرف أن التوطين فى لبنان مسألة قد يكون من المستحيل إنجازها قبل حصول حرب أهلية ولو على نطاق محدود. إلا أنه، فى المقابل، يدرك أن هذه المسألة التي كانت تفتقر إلى أي دعم محلي أو عربي فى الماضي، بل ومن المحرمات، باتت اليوم حديث الأروقة السياسية فى أكثر من عاصمة معنية، وفى أوساط قيادات "السنية السياسية" اللبنانية ومرجعيتها السعودية.
وتسجل مصادر استخبارية إسرائيلية عدة وقائع حديثة العهد فى هذا المجال، لعل أهمها تكليف الرئيس الأسبق أمين الجميل من قبل تحالف 14 آذار، لا سيما جنبلاط وتيار المستقبل، بزيارة كردستان العراق من أجل تعميق الصلة بتيار رئيس الإقليم مسعود البرزاني. وتسجل مصادر الاستخبارات الإسرائيلية فى هذا السياق، والتي لم تكن بعيدة كما يبدو عن ذلك، أن الزيارة التي حصلت نهاية أكتوبر الماضي كانت بترتيب مع مسشار الأمن القومي الأمريكي ستيفن هادلي الذي وصل إلى أربيل بالتزامن مع وصول الرئيس الجميل، وحضر معظم اجتماعاته مع الزعيم البرزاني ومسؤولي أجهزته الأمنية والعسكرية البيشمركة.
وبحسب هذه المصادر فإن الرئيس الجميل طرح على القيادة الكردية بشكل رسمي إمكانية دعم تحالف 14 آذار بالمقاتلين الأكراد المدربين جيدا إذا ما تطورت الأمور فى لبنان باتجاه المواجهة المسلحة، وقد حصل الجميل على وعد الرئيس البرزاني بتلبية الطلب حين الاقتضاء